ما بعد الثورات العربية Print
Saturday, 11 February 2012 11:57
There are no translations available.

بقلم المفكر العربي د. رياض نعسان آغا

هل كان الشباب الثائرون في ساحات كبرى في الوطن العربي ينتفضون ضد أنظمة الحكم في بلدانهم دون أن يعرفوا إلى أين هم ذاهبون؟ أتراهم حققوا دون أي دراية أو قصد منهم هدفاً عجزت الولايات المتحدة عن تحقيقه حين سمته بعض مراكز أبحاثها "الفوضى الخلاقة" فإذا هم يقعون فيها دون أن تبدو خلاقة إلى اليوم؟ يتساءل بعض المثقفين العرب عن جدوى الثورات التي حدثت، والتي اصطلح على تسميتها "الربيع العربي" ويقوّمونها من حيث النتائج والثمار، أكانت مجرد تمرد غاضب قاد إلى انهيارات وشروخ اجتماعية أم هي حقاً ثورات وانتفاضات واعية تريد أن تحقق تغييراً جذريّاً في حياة الأمة؟ ويسألون هل تمكنت هذه الثورات من الحفاظ على جوهرها النقي؟ هل حمت نفسها وشوارعها من كيد المتربصين بها؟ هل تمكن دعاتها ومنظروها من صياغة خطاب فكري لها؟ هل اختطفتها التيارات الإسلامية أو الليبرالية التي ساقت لها الظروف غير المتوقعة فرصة القفز إلى السلطة؟ أكانت هذه الثورات نتاج ما سمي بالصحوة التي اشتغلت عقوداً على أجيال الشباب وملأت عقولهم بإيديولوجيات مختلفة الرؤى للمستقبل فإذا هم ينفجرون حين وجدوا الموت خلاصاً وحيداً لم يجد البوعزيزي سواه للتعبير عن النقمة والغضب؟ هل فعلت الشعوب ذات فعلة البوعزيزي فأقدمت على ما يشبه الانتحار الجماعي وهي تعرض زهو شبانها للموت الذي صار خبراً يوميّاً عاديّاً تتناقله نشرات الأخبار وأوشك أن يفقد حرارة استقبال المتعاطفين من الصامتين المصابين بأمراض القلق والاكتئاب التي تعصف بالأمة كلها؟

هل سيندم العرب الثائرون لأنهم تورطوا بالثورات التي أفقدتهم الاستقرار والأمان وجاءت لهم بالرعب والذعر والخوف والجوع أيضاً، والتهديد بالانقسام والتشرذم بل وربما الحروب الداخلية المديدة؟

أتراهم سيترحمون على من سقط من الحكام الجائرين المخلوعين والمهددين بالخلع بعد أن تسقط البلاد في دوامات العنف، ويصير لكل حي زعيم وعلم ونشيد، وهل سيترحمون على الديمقراطيات المزيفة بعد أن يكتووا بنار الطائفيات والإثنيات والأعراق والملل والنحل التي قد تجعل لعبة السياسة مائدة لنخب جديدة تتلاعب من جديد بمقدرات الشعوب؟ أما بكى عراقيون كثر على صدام بعد إعدامه وقد ذاقوا من ظلمه الأمرَّين ولكنهم حين رأوا ما حل بالعراق من دمار وتمزق وضياع لهوية العراق باتوا يتذكرون كم كان العراق منيعاً وآمناً على رغم كل المظالم؟ أما كان بعض اللبنانيين يقولون لأصدقائهم من السوريين ليتنا نعيش مثلكم لا يفرق أحد منكم بين مسلم ومسيحي أو سني وشيعي ولا يسأل صاحبه عن دينه أو عن مذهبه، بينما في لبنان تتأصل الطائفية السياسية التي أشعلت حروباً على مدى عقود؟

تلك بعض الأسئلة التي يتداولها كثير من الناس فيما بينهم، ولاسيما بعد أن رأوا انتكاسات الثورات وأشدها انتكاساً ثورة مصر العظيمة التي جعلت ميدان التحرير رمزاً للحرية على صعيد عالمي، ولكنه سرعان ما تحول إلى ساحة صراعات فئوية وطائفية؟ وبعد أن رأوا خطر بقاء السلاح بأيدي بعض الثوار في ليبيا، وبعد أن رأوا فداحة المصاب في اليمن وكوارث ما يحدث في سوريا

أكان لابد من دفع هذا الثمن الباهظ أمام أمة لم تعد تجد وسيلة للخلاص مما هي فيه من ضعف وفساد وهوان وذل وامتهان لكرامة الإنسان؟ لقد حاول مناضلو الأمة عقوداً أن يلفتوا نظر حكامهم إلى ضرورة التغيير والإصلاح فكانت السجون والاعتقالات في انتظارهم، وكممت الأفواه فلم يعد أحد يستطيع التعبير عن رأيه، ثم من المسؤول عن إشعال نار الثورات على هذا النحو المدمر؟ قال زين العابدين لشعبه "فهمتكم" بعد أن سالت دماء التوانسة، أما القذافي فقد أصر على ألا يفهم وراح يقصف شعبه ويدمر مدنه، ما جعل الليبيين مستعدين للاستعانة بأي شيء، ولو بالشيطان، لعله ينقذهم ممن هو أشد منه عليهم، وبعض الحكام رأى الإذعان للشعب ضعفاً، مع أن الإذعان لله وللشعب ذروة قوة

إن غياب المعالجات السياسية الجذرية، والحذر الشديد من خطر أي تغيير في سدة الحكم، جعل بعض البلدان العربية على حافة الانهيار، ولاسيما بعد أن صار محتملاً أن تتعرض الثورات فيها لطول بقائها في الساحات لاختراقات من جهات عديدة تتربص بالأمة

وأخطر ما يمكن أن يكون من النتائج السلبية للثورات هو الشروخ الاجتماعية التي تهدد الوحدة الوطنية في كثير من البلدان، وهنا تقع المسؤولية على طرفي المعادلة، فالحديث عن ضمانات للأقليات مثلاً يبدو سخيفاً وكأن الأقليات ولدت بعد الثورات ولم تعش دهوراً وعصوراً مع باقي شرائح الشعب، وكأن النظم الحاكمة كانت ضمانة للأقليات وخصماً للأكثرية، وفي هذا ظلم للحقيقة، فالمسيحيون الأقباط في مصر مثلاً أقدم حضوراً من المسلمين وهم يعيشون معاً عبر شراكة تاريخية وطنية وحضارية، وكذلك الأمازيغ في بلدان المغرب العربي، وأما شرائح المجتمع في سوريا مثلاً فهم سر قوتها التي نزهو بما فيها من ثراء التعددية. والخطر أن يعبث أحد بهذا التآلف وأن يبث الفرقة والعداوة بين أبناء الشعب الواحد الذي عاش عصوراً من الحميمية بين أطيافه وهذه الحميمية الصادقة هي التي أتاحت لكثيرين أن يتسلموا زمام المسؤولية دون أن يسألهم أحد عن أديانهم أو طوائفهم أو أعراقهم وهل هم من الأكثرية أم من الأقليات. ولقد كان المجتمع السوري يقدم للعالم نموذجاً فذاً وجميلاً للعيش المشترك، ولكن التجييش الطائفي في المنطقة كلها صار لعبة قذرة يحاول أعداء الأمة من خلالها أن يجعلوا الإسلام يعادي الإسلام، وهذا الضخ والتحريض الإعلامي في بعض فضائيات الوطن العربي لإثارة الفتنة بين السنة والشيعة هو فخ للإسلام السمح، وتدمير لقيمه النبيلة

ولكي يتجنب العرب أن تنقلب نعمة الثورات إلى نقمة لابد من أن يبادر المثقفون والمفكرون الذين لم يجدوا دوراً وسط أزيز الرصاص لاستعادة موقف الفكر الناضج بدل أن تترك الساحات للحمقى، ولتحمل المسؤولية عن صياغة رؤى المستقبل، وأن تكون الدعوة إلى الحوار قبل الدمار، فحتى الحروب الطاحنة تنتهي بموائد الحوار، وبالوسع حقن الدماء عبر الاحتكام إلى الديمقراطية، وتبقى صناديق الانتخاب هي السبيل الوحيد لمشاركة الجميع في بناء مستقبل الأمة

Quelle : الاتحاد

Last Updated on Saturday, 11 February 2012 12:19