نزار قباني شاعر السياسة والحب: في ذكرى رحيله PDF Drucken E-Mail
Sonntag, den 01. Mai 2011 um 00:54 Uhr
د. رياض نعسان أغا

تحتفي ذاكرتي بذاك العبق الذي يضوع في الفؤاد ، حين تراوده طيوف المبدعين ، الذين أثروا الوجدان العربي وطيّبوه بإبداع أصيل جميل

ولقد كان من أقربهم الى نفسي ,وأحبهم إليّ شاعر السياسة والحب

نزار قباني رحمه الله ، فقد تربيت على قصائده مذ كنت في مراهقتي الأولى أتعرف إلى طفولة نهد وقالت لي السمراء وسامبا و سواها من الدواوين الصغيرة التي كانت تنام على سريري

وكان نزار يمثل لي عالماً مختلفاً عن ذاك الذي ورثته عن والدي وعن أساتذتي ،فهم سلموني بعض مفاتيح التراث، وأدخلوني إلى حجرات امرىء القيس والنابغة وزهير وطرفة والمتنبي وأبي العلاء ، فلما دخلت حجرة نزار وجدتها شيئاً مختلف الأثاث ، نوافذها مشرعة مفتوحة ، تتدلى منها عرائش الياسمين ،وتطل على حديقة النارنج والدراق والليمون ، وينداح منها أريج عطور فرنسية ، توحي بأن امرأة مرت من هنا ، وأخرى يتنفس جسدها تحت الشمس

أدهشني في نزار أنه دخل إلى أعماق المرأة وتوغل في ثناياها، يختبىء تحت الرداء ، فيسمع همس القلب ، ويلامس المرايا ، ويتقرى نعومة الرخام ، فإذا فتنه بريق القرط ، وأسكره رحيق اللمى ،غرق وذاب في بحر العيون

ولست أعرف في العربية شاعراً قبل نزار دخل إلى جسد المرأة فسرى في العروق مسرى الدماء ،وسمع النبض والخلجات ، ثم اغتسل بماء الأنوثة ، وشرب منه حتى ثمل ، فجاء شعره مائياً فيه عذوبة الأنثى ورقتها ، وانسيابها الرشيق على جسد الكون تسقيه فتدب فيه الحياة

ولا أعرف في العربية شاعراً عاش هموم النساء في علاقاتهن مع الرجال كما عاشها نزار

ففي موضوعات قصائده كثير من مآسي النساء ، وهو يغضب غضبهن ويثور ثورتهن

( لاتمتقع .. إني لأشعر أنني حبلى )

ولكن العاشق النذل يمتقع لونه ، ويريد أن ينكر فعلته ، فتطل كبرياء المرأة التي وقعت في الخطيئة من فوق الجراح

( أنا لست آسفة عليك

لكن على قلبي الوفي ،

قلبي الذي لم تعرف )

وهو الشاعر العربي الوحيد الذي تجرأ على الحديث بلسان النساء يبوح بما يخفين ،ويجعل من العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة طقساً احتفالياً مختلفاً عن ذاك الشعر الماجن الذي تفنن به اللاهون والعابثون من الشعراء.

لقد جعل نزار من الحب قضية كبرى ، حين أزاح الستار عن حقيقة المعاناة التي يئن منها المجتمع

ولكن المحافظين أخذوا على نزار في منتصف القرن الماضي جرأته على كشف المستور ، وفضحه ما في الصدور، من حس مقهور، و شوق محظور.

والطريف أن كثيرين من الرجال وبينهم نقّاد ، اختلط عليهم صوت نزار بصوت النساء اللواتي تحدث باسمهن ، وبصوت شهريار الذي ثرن عليه ،فحمّلوا نزاراً وزر ما فعلت شخوصه

وسر هذا الاختلاط براعة نزار في التوغل إلى أعماق اللواتي تحدث باسمهن ، وتقمص أحاسيسهن ، وتفننه في وصف زينتهن وملابسهن وأشيائهن الصغيرة والكبيرة ، حتى صارت المرأة في شعره عالماً متكاملاً تتوهج فيه المشاعر والأحاسيس كما تتقد الغرائز والشهوات

وقد تأذى نزار من اختلاط الفهم حين تحدث باسم شهريار ، فظن كثيرون أنه يعني نفسه ( وهذه خطورة الحديث بصفة المتكلم) فتوهموا أنه هو الذي فصّل من جلد النساء عباءة ،وبنى من الأثداء أهراماً،ونسي الواهمون أنه كان يحكي باسم شهريار ، كما حكى من قبل باسم نساء وجهن إليه الحديث فظن بعض الناس أنه المعني حين تخاطبه المرأة في مثل قوله على لسان امرأة

(ياوارثاً عبد الحميد والمتكى التركي والنرجيلة الكسلى تئن وتستعيد...

لا لم يمت عبد الحميد .. فلقد تقمص فيكمو عبد الحميد..الخ ).

والحق أن نزاراً دافع عن المرأة كما لم يفعل أحد من قبله ،وحرر النساء في شعره ، حين أخرجهن من الحجرات المظلمة إلى شرفات الضوء.

ولقد فاجأنا نزار بقصيدتيه الشهيرتين ( خبز وحشيش وقمر، وهوامش على دفتر النكسة ) اللتين قدمتاه شاعراً سياسياً من الطراز الرفيع ،فقد خرج من قدرة ضخمة على التعبير عن أعماق المرأة إلى قدرة هائلة على التعبير عن أحزان الأمة ، وبدأ شعره السياسي يصير خبز الناس ، ينتظرون ظهور قصيدته السياسية ويتلهفون إليها ، لأنها بيانهم السياسي.

والمفارقة أن كثيرين أنكروا على نزار اقتحامه عالم الشعر السياسي ، بعد حزيران ،وتساءلوا ما شأن شاعر الهوى والحب ، بقضايا الأمة الكبرى ،وأحسب أن سرّ ذاك الإنكار ضيق بصراحة نزار ، ولاسيما حين نشر الغسيل الوسخ في دفتر النكسة ، ولست أنكر أنني كنت واحداً من الرافضين آنذاك دخول نزار إلى حقل ألغام السياسة ، فقد أخذت عليه تحميلنا مسئوليات عبد الناصر ,حين رثاه قائلاً فأبكانا(قتلناك يا آخر الأنبياء )وكنت عام نكسة 1967 في العشرين من العمر ، أنكر رغم الأسى أن نكون ( قتلنا عبد الناصر ) وأنكر أن يكون من الأنبياء ( مع حق نزار في التحفظ على المجاز الشعري) فوجدتني أكتب قصيدة انفعالية أعارضه وأقول فيها ( نحن لم نقتل نبياً ، نحن لم نذبح إماما ، بل ذُبحنا وقُتلنا ، وتحملنا الملاما).

وقد رويت لنزار ما كان من اعتراضي عليه بعد ثلاثين عاماً على الحادثة ، وقلت إنّ ذلك لم يكن موقفاً شعرياً بمقدار ما كان اضطراباً قادتنا إليه فواجع الأمة ، وإنكاراً لتبرئة عبد الناصر من المسئولية مهما تكن مشاعرنا نحوه.

والمفارقة أنني رغم كل ما كنت أكن لنزار من محبة واحترام ، لم أقابله إلا في أوائل التسعينيات ، لكنني نعمت منذ مطلع الثمانينات بصداقة عذبة مع شقيقه الديبلوماسي الكبير ، الفنان المرهف الدكتور صباح قباني وكان أول مدير للتلفزيون السوري قبل أن يكون سفيراً لسورية في واشنطن ، وهو كاتب وناقد ومصور ومحدث بارع ، وقد قربتني هذه الصداقة العذبة مع صباح من عوالم شقيقه نزار الذي كان يعيش خارج سورية بعد أن أنهى عمله سفيراً لسورية كذلك في مطالع الستينات ليتفرغ لفنه وشعره ويقيم بادىء الأمر في لبنان .

ولكن نزاراً لم ينقطع عن الشام بل كان يحملها في قلبه ، وهي تضمه إليها كما كانت تضمه أم المعتز ،وحسبه روعة في التعيبر عن عشقه للشام قوله

( فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا

فيادمشق لماذا نبدأالعتبا

حبيبتي أنت فاستلقي كأغنية

على ذراعي ولا تستوضحي السببا

أنت النساء جميعاً مامن امرأة

أحببت قبلك إلا خلتها كذبا

فما قميص من القمصان ألبسه

إلا وجدت على خيطانه عنبا )

ولم يتوقف نزار لحظة عن الحنين العذب إلى الشام ، (فليلُ دمشق ، فلّ دمشق ، دورُ دمشق ،تسكن في خواطرنا ،مآذنها تضىء على مراكبنا ، كأن مآذن الأموي قد زرعت بداخلنا ،كأن مشاتل التفاح ، تعبق في ضمائرنا...الخ)

وحين التقيت نزاراً لم أكن أعرف متى كان اللقاء الأول ،ففي ذاكرتي يعشعش شعر نزار ، وشاءت الأقدار أن تمتد الصلة ما بيننا، وكان قد طلب مني وزير الإعلام أنذاك أن أسجل حواراً خاصاً مع شاعر الشام الكبير، ولكن نزاراً اعتذر في البداية لألم (ديسك في ظهره يمنعه من الجلوس طويلاً ) ولكننا أغريناه بكرسي مريح وزمن قصير ، وكانت المفارقة أن اللقاء استمر ست ساعات بلا توقف أمام الكاميرات حين آنسه الحديث وأحاط به فيض محبتنا ، وحين انتهينا من التسجيل قال لي نزار لقد قبلت أن يطول الحوار لأنه آخر حوار سأسجله ،وكنت قد فاجأت نزاراً بفيلم أعده للبرنامج صديقي ( علاء نعمة)عن بيت نزار القديم، وعن طفولته وسجل أحاديث صحبه عنه ، وقد شاركنا بالحديث في تلك الحلقات الست عدد من الأصدقاء منهم الناقد الكبير د. حسام الخطيب والمحامي الصديق نجاة قصاب حسن والشاعر الظريف أحمد الجندي رحمهما الله ، والصديق الفنان سعد الله آغا القلعة ،وكانت هذه المشاركات قد جعلت من البرنامج وثيقة حية وعذبة

وكان نزارقد دعي لإحياء أمسية شعرية في الشام ، ولكنه اختار فيما اختار قصيدة من شعره الذي يصعب على الأنظمة السياسية في الوطن العربي قبولها ، وأحس انه لم يوفق بالاختيار رغم كون ما لاقت القصيدة من شهرة بين الناس ، لكن بعض صحبه أنبئوه أنه أسرف، وهم يخشون عليه أن يؤول المؤولون ما لايريد تأويله لمن يكرمه ، فسافر وفي نفسه غصة ، وقد بلغ الأمر مسمع الرئيس الراحل حافظ الأسد رحمه الله ، فأوفدني وزير الإعلام آنذاك إلى سويرا حيث كان يقيم نزار لأبلغه دعوة جديدة من السيد الرئيس مع أعذب مشاعر المحبة ، وقد تلقاني نزار بدماثة الشام ورهافة الشاعر وقدّر عالياً هذا التكريم الذي يلقاه وكنت حملت إليه ما يطمئنه من سعة الصدر ورحابة التلقي، وأمضيت مع نزار فسحة من العمر الجميل على ضفاف بحيرة ليمان يحدثني شعراً ، ويبوح بكثير مما أرجو أن يتاح لي كشفه ذات يوم ، لأنه لا خصوصية للمبدعين ، فحياتهم وأسرارهم ملك الناس الذين أحبوهم ولكن لكل حادث حديث